كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، مِنْهُمُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَأَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَابْنُ قُتَيْبَةَ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَالْمُنْتَصِرِينَ لِمَذَاهِبِ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ قَالَ فِيهِ صَاحِبُ كِتَابِ التَّحْدِيثِ بِمَنَاقِبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ: وَهُوَ أَحَدُ أَعْلَامِ الْأَئِمَّةِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْفُضَلَاءِ، أَجْوَدُهُمْ تَصْنِيفًا، وَأَحْسَنُهُمْ تَرْصِيفًا، لَهُ زُهَاءُ ثَلَاثِمِائَةِ مُصَنَّفٍ، وَكَانَ يَمِيلُ إِلَى مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ. وَكَانَ مُعَاصِرًا لِإِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ، وَكَانَ أَهْلُ الْمَغْرِبِ يُعَظِّمُونَهُ وَيَقُولُونَ: مَنِ اسْتَجَازَ الْوَقِيعَةَ فِي ابْنِ قُتَيْبَةَ يُتَّهَمُ بِالزَّنْدَقَةِ، وَيَقُولُونَ. كُلُّ بَيْتٍ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ تَصْنِيفِهِ لَا خَيْرَ فِيهِ. قُلْتُ: وَيُقَالُ هُوَ لأهل السُّنَّةِ مِثْلُ الْجَاحِظِ لِلْمُعْتَزِلَةِ، فَإِنَّهُ خَطِيبُ السُّنَّةِ، كَمَا أَنَّ الْجَاحِظَ خَطِيبُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أيضا الْقَوْلُ الْآخَرُ، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَطَائِفَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَلَمْ يَذْكُرْ هَؤُلَاءِ عَلَى قَوْلِهِمْ نَصًّا عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَصَارَتْ مَسْأَلَةَ نِزَاعٍ، فَتُرَدُّ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ. وَأُولَئِكَ احْتَجُّوا بأنه قَرَنَ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ بِابْتِغَاءِ تَأْوِيلِهِ، وَبِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَمَّ مُبْتَغِيَ الْمُتَشَابِهِ وَقَالَ: «إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَاحْذَرُوهُمْ» وَلِهَذَا ضَرَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه صَبِيغَ بْنَ عِسْلٍ لَمَّا سَأَلَهُ عَنِ الْمُتَشَابِهِ، وَلِأَنَّهُ قَالَ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ} وَلَوْ كَانَتِ الْوَاوُ وَاوَ عَطْفٍ مُفْرَدٍ لَا وَاوَ الِاسْتِئْنَافِ الَّتِي تَعْطِفُ جُمْلَةً لَقَالَ: وَيَقُولُونَ.
فَأَجَابَ الْآخَرُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ اللهَ قَالَ: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا} [59: 8] ثُمَّ قَالَ: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ} [59: 9] ثُمَّ قَالَ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بالإيمان} [59: 10] قَالُوا: فَهَذَا عَطْفٌ مُفْرَدٍ عَلَى مُفْرَدٍ وَالْفِعْلُ حَالٌ مِنَ الْمَعْطُوفِ فَقَطْ. وَهُوَ نَظِيرُ قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}.
قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مُجَرَّدَ الْوَصْفِ بالإيمان لَمْ يَخُصَّ الرَّاسِخِينَ، بَلْ قَالَ: وَالْمُؤْمِنُونَ يَقُولُونَ: آمَنَّا بِهِ، فَإِنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ، فَلَمَّا خَصَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ بِالذِّكْرِ عُلِمَ أَنَّهُمُ امْتَازُوا بِعِلْمِ تَأْوِيلِهِ فَعَلِمُوهُ؛ لِأَنَّهُمْ عَالِمُونَ، وَآمَنُوا بِهِ؛ لِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ.
وَكَانَ إِيمَانُهُمْ بِهِ مَعَ الْعِلْمِ أَكْمَلَ فِي الْوَصْفِ، وَقَدْ قَالَ عَقِبَ ذَلِكَ: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الألباب وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هُنَا تَذَكُّرًا يَخْتَصُّ بِهِ أُولُو الألباب فَإِنْ كَانَ مَا ثَمَّ إِلَّا إِيمَانٌ بِالْأَلْفَاظِ فَلَا يَذَّكَّرُ لِمَا يَدُلُّهُمْ عَلَى مَا أُرِيدَ بِالْمُتَشَابِهِ وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} فَلَمَّا وَصَفُوهُمْ بِالرُّسُوخِ فِي الْعِلْمِ وَأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ قَرَنَ بِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَوْ أُرِيدَ هُنَا مُجَرَّدُ الإيمان لَقَالَ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَالْمُؤْمِنُونَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ، كَمَا قَالَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ لَمَّا كَانَ مُرَادُهُ مُجَرَّدَ الِاخْتِبَارِ بالإيمان جَمَعَ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ.
قَالُوا: وَأَمَّا الذَّمُّ فَإِنَّمَا وَقَعَ عَلَى مَنْ يَتَّبِعُ الْمُتَشَابِهَ لِابْتِغَاءِ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءِ تَأْوِيلِهِ، وَهُوَ حَالُ أَهْلِ الْقَصْدِ الْفَاسِدِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْقَدْحَ فِي الْقُرْآنِ، فَلَا يَطْلُبُونَ إِلَّا الْمُتَشَابِهَ لِإِفْسَادِ الْقُلُوبِ وَهِيَ فِتْنَتُهَا بِهِ وَيَطْلُبُونَ تَأْوِيلَهُ، وَلَيْسَ طَلَبُهُمْ لِتَأْوِيلِهِ لِأَجْلِ الْعِلْمِ وَالِاهْتِدَاءِ بَلْ لِإِجْلِ الْفِتْنَةِ، وَكَذَلِكَ صَبِيغُ بْنُ عِسْلٍ ضَرَبَهُ عُمَرُ؛ لِأَنَّ قَصْدَهُ بِالسُّؤَالِ عَنِ الْمُتَشَابِهِ كَأن لابْتِغَاءِ الْفِتْنَةِ. وَهَذَا كَمَنْ يُورِدُ أَسْئِلَةَ إِشْكَالَاتٍ عَلَى كَلَامِ الْغَيْرِ وَيَقُولُ: مَاذَا أُرِيدَ بِكَذَا؟ وَغَرَضُهُ التَّشْكِيكُ وَالطَّعْنُ فِيهِ، لَيْسَ غَرَضُهُ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ عَنَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقوله: «إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ» وَلِهَذَا يَتَّبِعُونَ أَيْ يَطْلُبُونَ الْمُتَشَابِهَ وَيَقْصِدُونَهُ دُونَ الْمُحْكَمِ مِثْلُ الْمُسْتَتْبِعِ لِلشَّيْءِ الَّذِي يَتَحَرَّاهُ وَيَقْصِدُهُ وَهَذَا فِعْلُ مَنْ قَصْدُهُ الْفِتْنَةُ، وَأَمَّا مَنْ سَأَلَ عَنْ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ لِيَعْرِفَهُ وَيُزِيلَ مَا عَرَضَ لَهُ مِنَ الشُّبْهَةِ وَهُوَ عَالِمٌ بِالْمُحْكَمِ مُتَّبِعٌ لَهُ مُؤْمِنٌ بِالْمُتَشَابِهِ لَا يَقْصِدُ فِتْنَةً، فَهَذَا لَمْ يَذُمَّهُ اللهُ. وَهَكَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ يَقُولُونَ مِثْلَ الْأَثَرِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي رَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ الْجُوزَجَانِيُّ: حَدَّثْنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ ثَنَا بَقِيَّةُ ثَنَا عُتْبَةُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ ثَنِي عِمَارَةُ بْنُ رَاشِدٍ الْكِنَائِيُّ عَنْ زِيَادٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: يَقْرَأُ الْقُرْآنَ رَجُلَانِ فَرَجُلٌ لَهُ فِيهِ هَوًى وَنِيَّةٌ يُفَلِّيهِ فَلْيَ الرَّأْسِ يَلْتَمِسُ أَنْ يَجِدَ فِيهِ أَمْرًا يَخْرُجُ بِهِ عَلَى النَّاسِ، أُولَئِكَ شِرَارُ أُمَّتِهِمْ، أُولَئِكَ يُعْمِي اللهُ عَلَيْهِمْ سُبُلَ الْهُدَى، وَرَجُلٌ يَقْرَؤُهُ لَيْسَ لَهُ فِيهِ هَوًى وَلَا نِيَّةٌ يُفَلِّيهِ فَلْيَ الرَّأْسِ، فَمَا تَبَيَّنَ لَهُ مِنْهُ عَمِلَ بِهِ وَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ وَكَلَهُ إِلَى اللهِ، لَيَتَفَقَّهَنَّ أُولَئِكَ فِقْهًا مَا فَقِهَهُ قَوْمٌ قَطُّ، حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ مَكَثَ عِشْرِينَ سَنَةً فَلَيَبْعَثَنَّ اللهُ لَهُ مَنْ يُبَيِّنُ لَهُ الْآيَةَ الَّتِي أَشْكَلَتْ عَلَيْهِ أَوْ يُفْهِمَهُ إِيَّاهَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ قَالَ بَقِيَّةُ: اسْتَهْدَى ابْنُ عُيَيْنَةَ حَدِيثَ عُتْبَةَ هَذَا، فَهَذَا مُعَاذٌ يَذُمُّ مَنِ اتَّبَعَ الْمُتَشَابِهَ لِقَصْدِ الْفِتْنَةِ، وَأَمَّا مَنْ قَصْدُهُ الْفِقْهُ فَقَدْ أُخْبِرَ أَنَّ اللهَ لابد أَنْ يُفَقِّهَهُ الْمُتَشَابِهَ فِقْهًا مَا فَقِهَهُ قَوْمٌ قَطُّ.
قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا إِذَا عَرَضَ لِأَحَدِهِمْ شُبْهَةٌ فِي آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ كَمَا سَأَلَ عُمَرُ فَقَالَ: أَلَمْ تَكُنْ تُحَدِّثُنَا أَنَّا نَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ وَسَأَلَهُ أيضا عُمَرُ: مَا بَالُنَا نَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَقَدْ أَمِنَّا؟ وَلَمَّا نَزَلَ قوله: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [6: 82] شَقَّ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ حَتَّى بَيَّنَ لَهُمْ، وَلَمَّا نَزَلَ قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ} [2: 284] شَقَّ عَلَيْهِمْ حَتَّى بَيَّنَ لَهُمُ الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ، وَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ قَالَتْ عَائِشَةُ: أَلَمْ يَقُلِ اللهُ: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا؟ قَالَ: «إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ» قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ إِجْمَاعُ السَّلَفِ، فَإِنَّهُمْ فَسَّرُوا جَمِيعَ الْقُرْآنِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَرَضْتُ الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ أَقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ وَأَسْأَلُهُ عِنْدَهَا وَتَلَقَّوْا ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا تَعَلَّمُوا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزُوهَا حَتَّى يَتَعَلَّمُوا مَا فِيهَا مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ. قَالُوا: فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا. وَكَلَامُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ شَامِلٌ لِجَمِيعِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ إِلَّا مَا قَدْ يُشْكِلُ عَلَى بَعْضِهِمْ فَيَقِفُ فِيهِ لَا لِأَنَّ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُهُ. لَكِنْ لِأَنَّهُ هُوَ لَمْ يَعْلَمْهُ. وَأيضا فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَمَرَ بِتَدَبُّرِ الْقُرْآنِ مُطْلَقًا وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهُ شَيْئًا لَا يُتَدَبَّرُ، وَلَا قَالَ: لَا تَدَبَّرُوا الْمُتَشَابِهَ. وَالتَّدَبُّرُ بِدُونِ الْفَهْمِ مُمْتَنِعٌ، وَلَوْ كَانَ مِنَ الْقُرْآنِ مَا لَا يُتَدَبَّرُ لَمْ يُعْرَفْ، فَإِنَّ اللهَ لَمْ يُمَيِّزِ الْمُتَشَابِهَ بِحَدٍّ ظَاهِرٍ حَتَّى يُجْتَنَبَ تَدَبُّرُهُ، وَهَذَا أيضا مِمَّا يَحْتَجُّونَ بِهِ وَيَقُولُونَ: الْمُتَشَابِهُ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ إِضَافِيٌّ، فَقَدْ يَشْتَبِهُ عَلَى هَذَا مَا لَا يَشْتَبِهُ عَلَى غَيْرِهِ، قَالَ: لِأَنَّ اللهَ أَخْبَرَ أَنَّ الْقُرْآنَ بَيَانٌ وَهُدًى وَشِفَاءٌ وَنُورٌ، لَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهُ شَيْئًا عَنْ هَذَا الْوَصْفِ، وَهَذَا مُمْتَنِعٌ بِدُونِ فَهْمِ الْمَعْنَى.
قَالُوا: وَلِأَنَّ مِنَ الْعَظِيمِ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللهَ أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ كَلَامًا لَمْ يَكُنْ يَفْهَمُ مَعْنَاهُ لَا هُوَ وَلَا جِبْرِيلُ، بَلْ وَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ بِأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَالْمَعَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ نَظِيرُ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ عِنْدَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ مَعْنَى مَا يَقُولُهُ. وَهَذَا لَا يُظَنُّ بِأَقَلِّ النَّاسِ، وَأيضا فَالْكَلَامُ إِنَّمَا الْمَقْصُودُ بِهِ الْإِفْهَامُ، فَإِذَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ ذَلِكَ كَانَ عَبَثًا وَبَاطِلًا وَاللهُ تعالى قَدْ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ فِعْلِ الْبَاطِلِ وَالْعَبَثِ، فَكَيْفَ يَقُولُ الْبَاطِلَ وَالْعَبَثَ وَيَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ نَزَّلَهُ عَلَى خَلْقِهِ لَا يُرِيدُ بِهِ إِفْهَامَهُمْ؟ وَهَذَا مِنْ أَقْوَى حُجَجِ الْمُلْحِدِينَ، وَأيضا فَمَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ إِلَّا وَقَدْ تَكَلَّمَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ فِي مَعْنَاهَا وَبَيَّنُوا ذَلِكَ، وَإِذَا قِيلَ: فَقَدْ يَخْتَلِفُونَ فِي آيَاتِ الأمر وَالنَّهْيِ مِمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ مَعْنَاهَا، وَهَذَا أيضا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَفْسِيرَ الْمُتَشَابِهِ، فَإِنَّ الْمُتَشَابِهَ قَدْ يَكُونُ فِي آيَاتِ الأمر وَالنَّهْيِ كَمَا يَكُونُ فِي آيَاتِ الْخَيْرِ، وَتِلْكَ مِمَّا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَعْرِفَةِ الرَّاسِخِينَ لِمَعْنَاهَا فَكَذَلِكَ الْأُخْرَى، فَإِنَّهُ عَلَى قَوْلِ النُّفَاةِ لَمْ يَعْلَمْ مَعْنًى لِلْمُتَشَابِهِ إِلَّا اللهُ لَا مَلَكٌ وَلَا رَسُولٌ وَلَا عَالِمٌ، وَهَذَا خِلَافُ إِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فِي مُتَشَابِهِ الأمر وَالنَّهْيِ.
وَأيضا فَلَفْظُ التَّأْوِيلِ يَكُونُ لِلْمُحْكَمِ كَمَا يَكُونُ لِلْمُتَشَابِهِ كَمَا دَلَّ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ مَعْنَى الْمُحْكَمِ، فَكَذَلِكَ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ، وَأَيُّ فَضِيلَةٍ فِي الْمُتَشَابِهِ حَتَّى يَنْفَرِدَ اللهُ بِعِلْمِ مَعْنَاهُ وَالْمُحْكَمُ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَقَدْ بَيَّنَ مَعْنَاهُ لِعِبَادِهِ، فَأَيُّ فَضِيلَةٍ فِي الْمُتَشَابِهِ حَتَّى يَسْتَأْثِرَ اللهُ بِعِلْمِ مَعْنَاهُ؟ وَمَا اسْتَأْثَرَ اللهُ بِعِلْمِهِ كَوَقْتِ السَّاعَةِ لَمْ يَنْزِلْ خِطَابًا وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْقُرْآنِ آيَةً تَدُلُّ عَلَى وَقْتِ السَّاعَةِ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ اللهَ اسْتَأْثَرَ بِأَشْيَاءَ لَمْ يُطْلِعْ عِبَادَهُ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي كَلَامٍ أَنْزَلَهُ وَأَخْبَرَ أنه هُدًى وَبَيَانٌ وَشِفَاءٌ، وَأَمَرَ بِتَدَبُّرِهِ، ثُمَّ يُقَالُ: إِنَّ مِنْهُ مَا لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ إِلَّا اللهُ، وَلَمْ يُبَيِّنِ اللهُ وَلَا رَسُولُهُ ذَلِكَ الْقَدْرَ الَّذِي لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مَعْنَاهُ؟ وَلِهَذَا صَارَ كُلُّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ آيَاتٍ لَا يُؤْمِنُ بِمَعْنَاهَا يَجْعَلُهَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ، ثُمَّ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ قِصَّةُ أَهْلِ نَجْرَانَ وَقَدِ احْتَجُّوا بِقوله: {إِنَّا} و{نَحْنُ} وَبِقوله: {كَلِمَةٍ مِنْهُ}، {وَرُوحٍ مِنْهُ} وَهَذَا قَدِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَعْرِفَةِ مَعْنَاهُ، فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ لَا الْمَلَائِكَةُ وَلَا الْأَنْبِيَاءُ وَلَا أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ وَهُوَ مِنْ كَلَامِ اللهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَيْنَا وَأَمَرَنَا أَنْ نَتَدَبَّرَهُ وَنَعْقِلَهُ وَأَخْبَرَ أنه بَيَانٌ وَهُدًى وَشِفَاءٌ وَنُورٌ؟ وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْكَلَامِ إِلَّا مَعَانِيَهُ، وَلَوْلَا الْمَعْنَى لَمْ يَجُزِ التَّكَلُّمُ بِلَفْظٍ لَا مَعْنَى لَهُ، وَقَدْ قَالَ الْحَسَنُ: مَا أَنْزَلَ اللهُ آيَةً إِلَّا وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يُعْلَمَ فِيمَاذَا أُنْزِلَتْ وَمَاذَا عُنِيَ بِهَا.
وَمَنْ قَالَ: إِنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ سُؤَالُ الْيَهُودِ عَنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ فِي {الم} بِحِسَابِ الْجُمَلِ فَهَذَا نَقْلٌ بَاطِلٌ، أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ.
وَأَمَّا ثَانِيًا: فَهَذَا قَدْ قِيلَ إِنَّهُمْ قَالُوهُ فِي أَوَّلِ مَقْدَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ، وَسُورَةُ آلِ عِمْرَانَ إِنَّمَا نَزَلَ صَدْرُهَا مُتَأَخِّرًا لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ نَجْرَانَ بِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ الْمُتَوَاتِرِ، وَفِيهَا فَرْضُ الْحَجِّ وَإِنَّمَا فُرِضَ سَنَةَ تِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ وَلَمْ يُفْرَضْ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.
وَأَمَّا ثَالِثًا: فَلِأَنَّ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ وَدَلَالَةَ الْحَرْفِ عَلَى بَقَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَيْسَ هُوَ مِنْ تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللهُ بِعِلْمِهِ، بَلْ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: أنه لَيْسَ مِمَّا أَرَادَهُ اللهُ بِكَلَامِهِ فَلَا يُقَالُ أنه انْفَرَدَ بِعِلْمِهِ، بَلْ دَعْوَى دَلَالَةِ الْحُرُوفِ عَلَى ذَلِكَ بَاطِلَةٌ، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: بَلْ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَقَدْ عَلِمَ بَعْضُ النَّاسِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ فَقَدَ عَلِمَ النَّاسُ بِذَلِكَ، أَمَّا دَعْوَى دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّ أَحَدًا لَا يَعْلَمُهُ فَهَذَا هُوَ الْبَاطِلُ، وَأيضا فَإِذَا كَانَتِ الْأُمُورُ الْعِلْمِيَّةُ الَّتِي أَخْبَرَ اللهُ بِهَا فِي الْقُرْأن لا يَعْرِفُهَا الرَّسُولُ كَانَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ قَدْحِ الْمَلَاحِدَةِ فِيهِ وَكَانَ حُجَّةً لِمَا يَقُولُونَهُ مِنْ أنه كَأن لا يَعْرِفُ الْأُمُورَ الْعِلْمِيَّةَ أَوْ أنه كَانَ يَعْرِفُهَا وَلَمْ يُبَيِّنْهَا، بَلْ هَذَا الْقَوْلُ يَقْتَضِي أنه لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهَا فَإِنَّ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ لَا يَعْلَمُهُ النَّبِيُّ وَلَا غَيْرُهُ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَالدَّلَائِلُ الْكَثِيرَةُ تُوجِبُ الْقَطْعَ بِبُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ فِي الْقُرْآنِ آيَاتٍ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهَا الرَّسُولُ وَلَا غَيْرُهُ. نَعَمْ قَدْ يَكُونُ فِي الْقُرْآنِ آيَاتٌ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهَا كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي آيَةٍ مُعَيَّنَةٍ بَلْ قَدْ يُشْكِلُ عَلَى هَذَا مَا يَعْرِفُهُ هَذَا. وَذَلِكَ تَارَةً يَكُونُ لِغَرَابَةِ اللَّفْظِ، وَتَارَةً لِاشْتِبَاهِ الْمَعْنَى بِغَيْرِهِ، وَتَارَةً لِشُبْهَةٍ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ تَمْنَعُهُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ، وَتَارَةً لِعَدَمِ التَّدَبُّرِ التَّامِّ، وَتَارَةً لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ، فَيَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّ قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} أَنَّ الصَّوَابَ قَوْلُ مَنْ يَجْعَلُهُ مَعْطُوفًا وَيَجْعَلُ الْوَاوَ لِعَطْفٍ مُفْرَدٍ أَوْ يَكُونُ كِلَا الْقَوْلَيْنِ حَقًّا وَهِيَ قِرَاءَتَانِ، وَالتَّأْوِيلُ الْمَنْفِيُّ غَيْرُ التَّأْوِيلِ الْمُثْبَتِ، وَإِنْ كَانَ الصَّوَابُ هُوَ قَوْلُ مَنْ يَجْعَلُهَا وَاوَ اسْتِئْنَافٍ فَيَكُونُ التَّأْوِيلُ الْمَنْفِيُّ عِلْمُهُ عَنْ غَيْرِ اللهِ هُوَ الْكَيْفِيَّاتُ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا غَيْرُهُ. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ جَاءَ عَنْهُ أنه قَالَ: أَنَا مِنَ الرَّاسِخِينَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ وَجَاءَ عَنْهُ أَنَّ الرَّاسِخِينَ لَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ، وَجَاءَ عَنْهُ أنه قَالَ: التَّفْسِيرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ، تَفْسِيرٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ كَلَامِهَا، وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ، وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ، وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ وَمَنِ ادَّعَى عِلْمَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ وَهَذَا الْقَوْلُ يَجْمَعُ الْقَوْلَيْنِ وَيُبَيِّنُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ يَعْلَمُونَ مِنْ تَفْسِيرِهِ مَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُمْ وَأَنَّ فِيهِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ.
فَأَمَّا مَنْ جَعَلَ الصَّوَابَ قَوْلَ مَنْ جَعَلَ الْوَقْفَ عِنْدَ قوله: {إِلَّا اللهُ} وَجَعَلَ التَّأْوِيلَ بِمَعْنَى التَّفْسِيرِ فَهَذَا خَطَأٌ، وَأَمَّا التَّأْوِيلُ بِالْمَعْنَى الثَّالِثِ وَهُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنِ الِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إِلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ، فَهَذَا الِاصْطِلَاحُ لَمْ يَكُنْ بَعْدُ عُرِفَ فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ بَلْ وَلَا التَّابِعِينَ بَلْ وَلَا الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَا كَانَ التَّكَلُّمُ بِهَذَا الِاصْطِلَاحِ مَعْرُوفًا فِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ بَلْ وَلَا عَلِمْتُ أَحَدًا فِيهِمْ خَصَّ لَفْظَ التَّأْوِيلِ بِهَذَا، وَلَكِنْ لَمَّا صَارَ تَخْصِيصُ لَفْظِ التَّأْوِيلِ بِهَذَا شَائِعًا فِي عُرْفِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ فَطِنُوا أَنَّ التَّأْوِيلَ فِي الْآيَةِ هَذَا مَعْنَاهُ صَارُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ لِمُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ مَعَانِيَ تُخَالِفُ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ، وَفَرَّقُوا دِينَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَصَارُوا شِيَعًا، وَالْمُتَشَابِهُ الْمَذْكُورُ الَّذِي كَانَ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ لَا يَدُلُّ ظَاهِرُهُ عَلَى مَعْنًى فَاسِدٍ، وَإِنَّمَا الْخَطَأُ فِي فَهْمِ السَّامِعِ. نَعَمْ قَدْ يُقَالُ: إِنَّ مُجَرَّدَ هَذَا الْخِطَابِ لَا يُبَيِّنُ كَمَالَ الْمَطْلُوبِ، وَلَكِنْ فَرْقٌ بَيْنَ عَدَمِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَبَيْنَ دَلَالَتِهِ عَلَى نَقِيضِ الْمَطْلُوبِ؛ فَهَذَا الثَّانِي هُوَ الْمَنْفِيُّ، بَلْ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْبَاطِلِ أَلْبَتَّةَ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَزْعُمُ أَنَّ لِظَاهِرِ الْآيَةِ مَعْنًى، إِمَّا مَعْنًى يَعْتَقِدُهُ وَإِمَّا مَعْنًى بَاطِلًا فَيَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلِهِ وَيَكُونُ مَا قَالَهُ بَاطِلًا لَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى مُعْتَقَدِهِ وَلَا عَلَى الْمَعْنَى الْبَاطِلِ. وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الْقُرْآنَ كَثِيرًا مَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّأْوِيلِ الْمُحْدَثِ وَهُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ مَدْلُولِهِ إِلَى خِلَافِ مَدْلُولِهِ.
وَمِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ قَالَ: الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ التَّأْوِيلَ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَعَا لَهُ وَقَالَ: «اللهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ» فَقَدْ دَعَا لَهُ بِعِلْمِ التَّأْوِيلِ مُطْلَقًا، وَابْنُ عَبَّاسٍ فَسَّرَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: عَرَضْتُ الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ أَقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا وَكَانَ يَقُولُ: أَنَا مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ.
وَأيضا فَالنُّقُولُ مُتَوَاتِرَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أنه تَكَلَّمَ فِي جَمِيعِ مَعَانِي الْقُرْآنِ مِنَ الأمر وَالْخَبَرِ؛ فَلَهُ مِنَ الْكَلَامِ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْقَصَصِ وَمِنَ الْكَلَامِ فِي الأمر وَالنَّهْيِ وَالْأَحْكَامِ مَا يُبَيِّنُ أنه كَانَ يَتَكَلَّمُ فِي جَمِيعِ مَعَانِي الْقُرْآنِ، وَأيضا فَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا مِنْ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ فِيمَاذَا أُنْزِلَتْ وَأيضا فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ آيَاتِ الْأَحْكَامِ يُعْلَمُ تَأْوِيلُهَا وَهِيَ نَحْوُ خَمْسِمِائَةِ آيَةٍ وَسَائِرُ الْقُرْآنِ خَبَرٌ عَنِ اللهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، أَوْ عَنِ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ أَوْ عَنِ الْقَصَصِ وَعَاقِبَةِ أَهْلِ الإيمان وَعَاقِبَةِ أَهْلِ الْكُفْرِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمُتَشَابِهُ الَّذِي لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ إِلَّا اللهُ، فَجُمْهُورُ الْقُرْأن لا يَعْرِفُ أَحَدٌ مَعْنَاهُ لَا الرَّسُولُ وَلَا أَحَدٌ مِنَ الْأُمَّةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مُكَابَرَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَأيضا فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعِلْمَ بِتَأْوِيلِ الرُّؤْيَا أَصْعَبُ مِنَ الْعِلْمِ بِتَأْوِيلِ الْكَلَامِ الَّذِي يُخْبَرُ بِهِ، فَإِنَّ دَلَالَةَ الرُّؤْيَا عَلَى تَأْوِيلِهَا دَلَالَةٌ خَفِيَّةٌ غَامِضَةٌ لَا يَهْتَدِي لَهَا جُمْهُورُ النَّاسِ، بِخِلَافِ دَلَالَةِ لَفْظِ الْكَلَامِ عَلَى مَعْنَاهُ، فَإِذَا كَانَ اللهُ قَدْ عَلَّمَ عِبَادَهُ تَأْوِيلَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يَرَوْنَهَا فِي الْمَنَامِ فَلَأَنْ يُعَلِّمَهُمْ تَأْوِيلَ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ الْمُبِينِ الَّذِي يُنَزِّلُهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ بِطَرِيقِ الأولى وَالْأَحْرَى. قَالَ يَعْقُوبُ لِيُوسُفَ: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [12: 6] وَقَالَ يُوسُفُ: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [12: 101] وَقَالَ: {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} [12: 37] َأيضا فَقَدْ ذَمَّ اللهُ الْكُفَّارَ بِقوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [10: 38، 39] وَقَالَ: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [27: 83، 84] وَهَذَا ذَامٌّ لِمَنْ كَذَّبَ بِمَا لَمْ يُحِطْ بِعِلْمِهِ، فَمَا قَالَهُ النَّاسُ مِنَ الْأَقْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَتَأْوِيلِهِ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَدِّقَ بِقَوْلٍ دُونَ قَوْلٍ بِلَا عِلْمٍ وَلَا يُكَذِّبَ بِشَيْءٍ مِنْهَا إِلَّا أَنْ يُحِيطَ بِعِلْمِهِ. وَهَذَا لَا يُمْكِنُ إِلَّا إِذَا عَرَفَ الْحَقَّ الَّذِي أُرِيدَ بِالْآيَةِ، فَيَعْلَمُ أَنَّ مَا سِوَاهُ بَاطِلٌ، فَيُكَذِّبُ بِالْبَاطِلِ الَّذِي أَحَاطَ بِعِلْمِهِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَعْرِفْ مَعْنَاهَا وَلَمْ يُحِطْ بِشَيْءٍ مِنْهَا عِلْمًا فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّكْذِيبُ بِشَيْءٍ مِنْهَا مَعَ أَنَّ الْأَقْوَالَ الْمُتَنَاقِضَةَ بَعْضُهَا بَاطِلٌ قَطْعًا، وَيَكُونُ حِينَئِذٍ الْمُكَذِّبُ بِالْقُرْآنِ كَالْمُكَذِّبِ بِالْأَقْوَالِ الْمُتَنَاقِضَةِ، وَالْمُكَذِّبُ بِالْحَقِّ كَالْمُكَذِّبِ بِالْبَاطِلِ؛ وَفَسَادُ اللَّازِمِ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْمَلْزُومِ.